الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

مياه العالم تتلوَّنُ بالبُنّي.. في محاولةٍ للحفاظ على البيئة!!

استمع على ساوندكلاود 🎧

إذا كنت في ولاية أونتاريو في كندا ومررْتَ بالقرب من نهر Nottawasaga، تناولْ قارورةً واملَأها من ماء النهر، ستلاحظُ أنّ المياهَ عكرةٌ بلونٍ بنيٍّ موحل. هذا اللون البنّيُّ ناتجٌ عن احتواءِ المياه على الكربون العضويّ المنحلّ (Dissolved Organic Carbon) الّذي يحجبُ الأشعةَ فوقَ البنسفجيّة ويمنعُها من اختراق المياه، إذ يُعتبَر بمثابة عاملِ حمايةٍ للحياة المائيّة من أشعة الشمس. كما أنّه مصدرُ الغذاء الأساسيّ للأحياء في البحيرات والأنهار، لكنّ الأشياءَ المفيدة قد تصبح ضارّةً إذا ما زادت عن حدِّها الطبيعي.

يرشحُ الكربونُ العضويّ المنحلّ DOC بشكلٍ طبيعيٍّ إلى المجاري المائية من التربة المحيطةِ بها عند تحلُّلِ البقايا النباتيّة، لكن، ما الّذي قد يُساهم في زيادة انتقال هذا الكربون إلى المصادر المائيّة؟

علاقة عكارة المياه مع انخفاض الأمطار الحامضية:

من المُفارَقات الّتي تدعو للسخرية، أنّ عكارةَ المياه وتحوّلها للّون البُنّي في الواقع كانت نتيجةً لقصّةِ نجاحٍ بيئيّة ألَا وهي تقليلُ الأمطار الحامضيّة، كيف ذلك؟!

ازدادت الأمطار الحامضيّة مع انطلاق الثورة الصناعيّة المُعتَمِدة على الوقود الأحفوريّ، حيث نتجَ عن حرق الهيدروكربونات وخاصّةً الفحم، انبعاثُ ثنائي أوكسيد الكبريت وأكاسيدِ النتروجين إلى الهواء، الّتي تتفاعلُ مع الماء في الغلاف الجوي مكوِّنةً الأحماض. وبعد أن اتضحَ أثرُ الأمطار الحامضية في تخريب الأشجار والبيئات المائية قامت الحكومات بسنِّ التشريعات والقوانين لمنع دخان المصانع من تلويث الهواء؛ ممّا ساهمَ في تقليلِ الأمطار الحامضيّة. لكن نتج عن ذلك آثارٌ غير متوقَّعة، حيث غيَّرَت رواسبَ الكبريت الناتجة عن الأمطار الحامضيّة كيمياءَ التربة في المناطق المعتدلة وشبه القطبية لتصبحَ جزيئات الترب فيها لزجةً وأكثرَ التصاقاً على بعضِها البعض، ممّا أدّى لبقاءِ الكربون العضويّ المنحلّ في مكانه وعدمِ تسرُّبِه إلى المصادر المائيّة المجاورة، ومع انخفاض تراكيز الكبريت في التربة نتيجة انخفاض الأمطار الحامضيّة، أصبحَ الكربون العضوي المنحلّ أقلَّ التصاقاً في التربة ممّا سهَّل وصولَه للمصادر المائيّة.

السبب في ازدياد عكارة المياه:

كشفت أبحاثٌ عديدةٌ ارتباطَ ارتفاعِ تراكيزِ الكربون العضويّ المُنحَلّ بشكلٍ وثيق مع تناقصِ رواسب الكبريت، لكنّ حلّ مشكلة عكارة المياه لن يكون بإزالة DOC الفائض من التربة، لأنّه يُعتقَدُ أنّ التغيُّرَ المناخيّ سيتابع تأثيره، فقد يكون ازدهارُ نموّ النباتات نتيجةَ توفُّرِ كميّاتٍ كبيرةٍ من ثنائي أوكسيد الكربون، وازديادُ طول مواسم النموّ والأمطارُ الغزيرة، هي السببُ في وصول تراكيزَ كبيرةٍ من DOC إلى الأنهار والبحيرات. وأيُّ شيءٍ يسبِّب ازديادَ إنتاج DOC، سيكونُ تأثيرُه أعظم عند فقدان لزوجة التربة.

الآثارُ البيئيّةُ لعكارة المياه:

لم يتمَّ تأكيدُ العلاقة بين عكارة المياه والتغيُّر المناخي حتى الآن، لكن الشيء الأكيد أن زيادة العكارة ليست خبراً جيداً. وجدت دراسةٌ في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا في تروندهايم، أنّ الزيادةَ الأوّليةَ في تراكيز DOC مرتبطةٌ بزيادة أعداد أسماكِ السلمون البني، لكنّ الارتفاعَ المستمرَّ لتلك التراكيز يسبب تناقصاً مُطَّرداً لتعداد الأسماك في النهاية. تعود فوائدُ عكارة المياه في البداية إلى قدرة DOC على حجب الأشعّة فوق البنفسجية، بالإضافة إلى انتقال الفوسفور والآزوت (المغذِّيان الأساسيّان اللازمان لنموِّ الكائنات الحيَّة) مع DOC إلى المصادر المائيّة، لكن عندما تصلُ مستوياتُ DOC إلى نقطةٍ حديَّةٍ تكون فيها المياه شديدةَ العكارةِ، عندها تصبحُ أشعّةُ الشمس غيرَ قادرةٍ على الوصول إلى الطحالب، وقد تصبح المياه عاتمةً لدرجةٍ تحجبُ الشمسَ حتى عن العوالق النباتيّة الحرّة الطافية. وهذا سيمنع حدوث عمليّة التركيب الضوئي ضمن الوسط المائيّ مؤدّياً إلى خللٍ في السلسلة الغذائية. إن عدم قدرة أشعة الشمس على اختراق المياه سيقلِّلُ عمقَ الطبقة العليا الدافئة من البحيرة الغنية بالأوكسجين المنحل، والتي تشكِّلُ المسكن الأساسي للأسماك. "كما هو موضح في المخطط".

تعني قلّةُ الضوء عدمَ قدرة العوالق النباتية على النموّ، وهذا سيقلِّل الأوكسجين والغذاء الذي تصنعه، بالتالي سيصبح المصدرُ المائي غيرَ ملائمٍ لحياة الأسماك. لم تُعرَف حتى الآن العتبةُ الحديّةُ التي تصبح فيها تراكيز DOC في المياه سلبيّةً. لكن يعتقد العلماء أنّ البحيرات الضحلة تصل لهذه العتبة عند حمولات DOC أعلى من البحيرات الأعمق، قد يكون السبب في ذلك أنّ الضوءَ لا يحتاج إلى مسافةٍ طويلةٍ حتّى يصلَ إلى القاع في البحيرات الضحلة.

ليست الحياةُ المائيةُ هي المتضررَ الوحيدَ من تَبِعَاتِ عكارة المياه، فانخفاضُ نفاذيّةِ المياه لأشعّة الشمس سيؤدّي إلى موت العوالق النباتية وسيطرةِ البكتيريا غيريةِ التغذية (التي لا تقوم بعملية التركيب الضوئي)، حيث ستلتهمُ الـ DOC وتطرح ثنائي أوكسيد الكربون كفضلات والذي سيدخل الغلاف الجوي ليساهم في الاحتباس الحراري. إذاً تزيد التغيراتُ المناخية من عكارة المياه، وعكارة المياه بدورها تزيدُ من التغيرات المناخية.

تأثير تراكيز DOC على معالجة مياه الشرب:

سترفع زيادة تراكيز DOC في المياه كلفة معالجتها لجعلِها أكثر أماناً للاستهلاك البشري. يتفاعل الكلور المعقِّم شائع الاستخدام للمياه مع DOC الموجود في المياه مشكلاً موادَّ سامَّةً، ولحلّ هذه المشكلة تتم إضافة كبريتات الحديد والألومينيوم إلى المياه فتتجمّع جزيئات DOC مع بعضها ثم تترسّب، وبذلك نستطيع معالجةَ المياه السطحيّةِ بشكلٍ آمن بالكلور. إذا كانت المياه شديدة العكارة سنحتاج لكميات أكبر من الكلور وبالتالي سترتفع كلفة معالجة المياه.

الحلول المُتاحة:

ممّا سبق كيف سنتعامل مع عكارة المياه على اعتبار أن زيادةَ الأمطار الحامضيّة ليست خياراً مطروحاً؟ كما أننا لا نستطيع التعامل مع العكارة كمشكلةٍ مستقلَّة عن بقيَّة المشاكل البيئية.

يقترحُ بعضُ العلماء تقييدَ الاستثمارات بالقرب من المصادر المائية الحساسة وإيجادَ طُرُقٍ لتسريعِ إزالةِ DOC منها. يرى آخرون أنه يجب تقليلُ الحصص السمكيّة في المسام للحيلولة دون تدهورِ أعداد الأسماك. ويجب أن نولي عكارةَ المياه المزيد من الاهتمام، لأنّها إذا استمرت في الاتساع، سنشهد تغيُّراً خطيراً في الأنظمةِ البيئيّةِ في الأنهار والبحيرات التي لدينا.

المصدر:

هنا