العمارة والتشييد > المدارس المعمارية

العمارة الإغريقية (الجزء الأول)

استمع على ساوندكلاود 🎧

دائماً ما نسمع عن الإغريق وعن امتلاكهم لحضارةٍ عظمى، كَوّنت من خلال عمارتها ومكتشفاتها أُسساً وركائزَ أساسيةً لفن وهندسة العمارة الحالية. هيا بنا نتعرف على عمارتهم وأهم مساهماتهم في الحضارة البشرية.

قدم لنا الإغريق (اليونانيون في وقتنا الحالي) بعضاً من أروع مباني العالم القديم، التي أصبحت أساساً أُنشئت وفقه العديد من المدن والبلدات ليس فقط في العصور القديمة، بل حتى الآن كالمعابد و المسارح و الملاعب.

اليونان (التي كانت القلب النابض للدولة الإغريقية) دولة تقع جنوب شرق أوروبا على البحر الأبيض المتوسط، تتكون من شبهِ جزيرةٍ تشكل الكيان الأساسي لها ومجموعةٍ من الجزر (أرخبيل) التابعة لها. تمتلك اليونان تاريخاً يمتد منذ 6000 ق.م. – هذا التاريخ يؤكده دليل أثري لأقدم كهوف مكتشفة سكنها البشر في هذه المنطقة.

أنماط الأعمدة orders

أحد أهم اكتشافاتهم المعمارية ابتكار أنماط الأعمدة المعروفة بالـ orders، التي تتكون من 3 أنماطٍ رئيسيةٍ وعدة أنماط مُتفرعة عنها، ناتجة عن دمج نمطين أو أكثر.

النمط او الـ orderهو اتحاد نوع معين من الأعمدة مع المدماك العلوي (السطح العلوي) الذي يحمله العمود (عتبة-افريز-كورنيش) بواسطة التاج، وتُميّز كل نمط قاعدة معينة أسفل العمود.

في الفترات الأولى استخدم الخشب في إنشاء الأعمدة التي تطورت لاحقاً واستخدمت الحجارة كمادة بناء أساسية مشكلةً بذلك الأعمدة الحجرية.

أنواع أنماط الأعمدة:

1-العمود الدوري: يتميز بعدم وجود قاعدة له، فيستند بدن العمود بذلك مباشرة على الأرض.

أما تاجه فبسيطٌ - الإفريز العلوي المحمول على الأعمدة يتمتع بتكوينات زخرفية تدعى triglyphs و metopes (عناصر مربعة الشكل محفورة بأشكال زخرفية متعددة).

2-العمود الأيوني: كان أرفع من العمود الدوري لكنه يمتلك على عكس الأول قاعدة أسفله يرتكز عليها العمود. على التاج زخارف حلزونية.

3-العمود الكورنثي: مشابه للأيوني ولكن يعلوه تاج أكثرُ زخرفةً (كانت الزخارف نباتية).

هذه الأنماط أصبحت قاعدةً أساسيةً للعمارة الغربية عبر العصور، فأصبح من النادر اليوم التجول ضمن مدينة غربية دون ملاحظة التأثيرات المختلفة المقتبسة من العمارة الإغريقية.

مواد البناء

في البداية استخدم الاغريق الخشب في كامل المباني والمنشآت المختلفة في عصرهم وذلك في بداية القرن الـ 8 ق.م. فبنيت على هذا الأساس المعابد من الخشب و استخدم القش لتغطية السقف. ومع نهاية القرن الـ 7 ق.م. تم استعمال الحجر الجيري الذي قد يُكسى بطبقة من الرخام المستخرج من أماكن قريبة من أثينا ببناء المنشآت الهامة في الدولة، فامتلكت بعض المعابد خليطاً من المادتين متحولةً بذلك إلى صروح حجرية خالدة. ولوحظ من خلال الرحلات الاستكشافية والدراسات التاريخية الأثرية، أنّ الصفات والميزات الزخرفية لتيجان الأعمدة الحجرية قد تطور بفعل النجارين القدماء الذين يعود إليهم الفضل في تصميم الأعمدة الخشبية.

المعابد

اهتم أصحاب السلطة ببناء المعابد، فهي تعتبر من أهم الرموز عند الإغريق. استخدمت فيها أحدث تقنيات الهندسة المتوفرة وقتها كإمالة محاور الأعمدة قليلاً عن الشاقول لتصحيح الخطأ البصري الناتج عن رؤيتها من مسافات بعيدة وتقليل ثخانة العمود باتجاه الأعلى وغيرها من العبقريات الهندسية ذلك لتحقيق أهداف جمالية وإنشائية.

المعابد اليونانية القياسية تمتلك مساقط متشابهة -غالباً مستطيلةُ الشكل- يتوزع حولها من كل الجوانب، صفٌ واحدٌ من الأعمدة -غالباً طرازها دوري أو أيوني- التي تعتبر العنصر الأساسي في تصميم الواجهات الخارجية. أما خلف الأعمدة تتشكل أروقةٌ معمّدةٌ تحيط بقاعةٍ داخليةٍ، تحتوي بدورها حُجرةً تضم تمثال الالهة. ترتفع هذه القاعة على قاعدة تتكون من 3 درجات. أما السقف فجملوني مائل باتجاهين بزاوية تقارب 15 درجة، تنتج عنه جبهة مثلثية عند مدخل المعبد، كما تتوضع على كل زاوية من زوايا الجبهة المثلثية الـ اكروتيرياacroteria والتي هي عبارة عن عناصر تزيينية منحوتة بأشكال زخرفية نباتية أو تماثيل مطلية بالبرونز. هذه العناصر الزخرفية لم تُستَغل فقط لإضفاء الفخامة والأصالة على واجهات المعابد بل كمنصة تروي لنا الحوادث الكبيرة التي وقعت في تاريخ المدينة أو حكاية أسطورة من الأساطير الإغريقية.

أما إنشاء السقف فيتم عن طريقة توضّع دقيق لجوائز أفقية خشبية وجوائز مائلة خشبية مغطاة بالطين أو بالبلاطات الرخامية. أما الأبواب خشبيةٌ مصنوعةٌ من شجر الدردار أو السرو، تكون مزينة بقلادات برونزية.

من الأمثلة الشهيرة للمعابد الإغريقية:

معبد البارثينون في أثينا عام 5 ق.م. الذي تم بناؤه على الأكروبول (المنطقة المرتفعة) ليؤكد مجد وعظمة أثينا.

إعادة تصور لواجهة معبد البارثينون في Nashville Tennessee

معبد أرتيميس في افيزوس عام 5 ق.م. والذي اُعتبر من عجائب العالم القديم، إلا أنه دُمّرَ في القرن الـ 3 ق.م. في نفس اليوم الذي وُلِدَ فيه الاسكندر المقدوني -القائد الاغريقي الشهير-الصورة التالية هي إعادة بناء وتصور للمعبد في اسطنبول-تركيا.

معبد بوسيدون في سونيون عام 5 ق.م. الذي يَجثُمُ على قمة المنحدرات المطلة على بحر إيجه وتنعكس في تصميمه رغبةُ الإغريقيين بإظهار عظمةِ مبانيهم من مسافات بعيدة.

اشتهرت بعض المعابد الاغريقية بسبب تصميمها المتميز والمختلف عن النموذج العام الذي كان سائداً في تلك الحقبة الزمنية، من أشهرها معبد أرخثيون في أثينا مع أعمدته المبتكرة التي تدعى Cyclades التي تتميز باستخدام تماثيل تجسد المرأة بدلاً عن بدن العمود التقليدي.

المعابد في أيونيا (تركيا حالياً) تتميز بامتلاك صف مزدوج من الأعمدة الخارجية المحيطة، أما معابد سيكلاديز لها أعمدة أيونية على واجهتها الأمامية فقط.

أدرك المعماريون الإغريق ضرورةَ توفير أساساتٍ ثابتةٍ قادرةٍ على دعم هذه المنشآت كبيرة الحجم لذلك درسوا طبقات الأرض واختاروا لكل مبنى الموقع الأفضل لبنائه بغض النظر عن تضاريسه، مما يضمن تحقيق مقاومة أكبر في وجه عناصر المناخ والهزات الارضية. فكان الاستقرار المطلق ضرورياً لأن هبوط المبنى في أي جزء بسبب التربة الضعيفة من شأنه أن يجعل التحسينات البصرية المذكورة سابقاً عديمةَ الفائدة بالإضافة إلى خطر انهيار المبنى أو جزء منه كنتيجة. ومن الملاحظ أن غالبية المباني اليونانية قد انهارت بسبب التدخلات البشرية مثل إزالة كتل معمارية مما أدى لإضعاف الهيكل العام لها.

معبد هيفاستايوس في أغورا أثينا يعتبر خير شاهد على متانة المباني اليونانية الرائعة التي لم يتدخل فيها البشر بعد تشييدها.

قدّمتِ المعابد على اختلاف أنماط أعمدتها أكثر إرثٍ معماري محسوسٍ من الحضارة الاغريقية، ومن المُضحك أن مباني العمارة الاغريقية الدينية وهندستها المعمارية العظيمة تُستخدمُ اليوم على نطاق واسع في المباني العلمانية كالمحاكم وكمبانٍ حكومية.

في نهاية الجزء الأول نجد أن العمارة الإغريقية قد أولت اهتماماً كبيراً ببناء المعابد، فأبدعت واستطاعت ترك بصمة كبيرة في حياة كل العصور التي تلتها. لكن إنجازات الإغريق لم تتوقف بالطبع عند هذا الحد، تابعوا معنا في الجزء الثاني لنتعرف على المزيد مما أنتجته هذه الحضارة العظيمة.

المصدر:

هنا