الطب > علوم عصبية وطب نفسي

تجربة الطفل الكبيرة.. الخطوات الأولى في علاج اضطرابات الشخصية

استمع على ساوندكلاود 🎧

في مختبرِ الأطفال في بيركبيك، لندن، تمَّ إجراءُ دراسةٍ على "إزرا" الطِّفلِ ذي الأشهرِ الخَمسة ضمنَ اختبارٍ تمَّ إطلاقُهُ منذ عام 2013 بهدفِ معرفةِ كيفيَّةِ تطوُّرِ عقلِ الإنسان. لم تكن هذه الدِّراسةُ اعتياديَّةً لعدمِ اعتمادِها على الوسائِلِ التَّقليديَّةِ في علومِ الأعصابِ، فبالتَّأكيدِ لن تَستَطيعَ أن تَطلُبَ من طفلٍ لم يتجاوزِ الخمسةَ أشهرٍ أن يستلقِيَ دونَ حراكٍ على جهازِ تصويرٍ لقياسِ الفعاليَّاتِ الدِّماغيَّةِ، أو أن يُجيبَ على سلسِلَةٍ من الأسئلةِ... بالمُقابلِ طوَّرَ العلماءُ وسائلَ قياسٍ أخرى يتمُّ من خلالِها استِعمالُ الأشعَّةِ تحتَ الحمراءِ لمعرفةِ ما ينظُرُ إليهِ الأطفالُ وبالتَّالي ما يثيرُ اهتمامهم.

في الماضي كانت كُلُّ التجاربِ التي تُقامُ على الأطفالِ تعتَمدُ على مبدأٍ بسيطٍ ألا وهُو قياسُ مدى انتباهِ الأطفالِ اعتماداً على طُولِ فترةِ النَّظرِ إلى شيءٍ ما، ولكنَّ نتائجَ هذهِ الوسيلةِ لم تكن حاسمةً وذلكَ لأنَّ اختلافَ أعمارِ الأطفالِ يؤثِّرُ بشكلٍ كبيرٍ على المُدَّةِ، فطولُ فترةِ النَّظَرِ قد يكونُ بهدفِ ربطِ الأمورِ معاً وهذا ما يحدُثُ عند حديثي الولادةِ، أو قد تكونُ بسببِ اهتمامِ الطِّفلِ بالأمرِ وهذا يَظهَرُ عندَ الأطفالِ بعمرِ السَّبعةِ أشهر.

لكن بفضلِ مختبر بيركبيك استطاعَ العلماءُ الانتقالَ إلى وسائلَ أكثرَ دِقَّةً، تعتَمِدُ على الأشعَّةِ تحتَ الحمراءِ بقياسِ مدى أكسجة منطِقَةٍ معيَّنةِ في الدِّماغِ وبالتَّالي توقُّع مقدارِ النَّشاطِ المبذولِ بها. ولا تَقتَصِرُ اختباراتُ المِخبَر على هذه الوَسيلَةِ وحسب بل يقومُ بدمجِ كافَّةِ الفحوصاتِ التي يمكنهُ الاعتمادُ عليها لدعمِ النَّتائِجِ التي توصَّل لها. وبفضلِ دمجِ الوسائلِ المختلفةِ استطاعَ المُختبرُ اكتشافَ مجموعةٍ منَ الحقائقِ عن أدمغةِ الأطفالِ، نذكرُ منها أنَّ الأطفالَ يُفضِّلونَ النَّظَرَ في وجوهِ الأشخاصِ الذينَ ينظرونَ لهم مباشرةً، على أن ينظروا في وجوهِ من ينظرونَ إلى مكانٍ آخرَ حيثُ يستجيبُ دماغُ الأطفالِ بفعاليَّاتٍ دماغيَّةٍ أقوى في حالِ النَّظَرِ إليهم بشكلٍ مباشرٍ وقد يرتبطُ التغيُّر في هذه الاستجابةِ بإصابةِ الطِّفلِ بالتَّوحُّدِ لاحِقاً. وقد تُفيدُ هذهِ النَّتائجُ في الكشفِ المبكِّرِ عنِ التَّوحُّدِ أو الاضطراباتِ النَّفسيَّة الأخرى التي تُصيبُ الأطفالَ ممَّا يمكِّنُنا منَ البدءِ الباكرِ بمعالجاتٍ سلوكيَّةٍ قد تفيدُ الطِّفل.

التَّعلُّمُ بالنَّظَر

المُراقبةُ هي أهمُّ الوسائلِ التي يتعلَّمُ بها الأطفالُ والعلماءُ على حدٍّ سَواء، وأوَّل وسيلةٍ تم تطبيقُهَا على الأطفالِ بهدفِ فَهمهم، فمن أوائلِ من استخدمَ هذه الوسيلةَ كان العالِمَ جين بياجيت (Jean Piaget) الذي تابعَ الأطفالَ بشكلٍ مكثَّفٍ لمعرفةِ كيفيَّةَ فهمِ الأطفالِ للعالمِ من حولهم، ومنه جاءَتِ التَّجربَةُ الشَّهيرَةُ التي أوضحت أنَّ الأطفالَ دونَ عُمرِ ثمانيةِ أشهرٍ تقريباً يظنُّونَ أنَّ الاشياءَ التي لا يَستطيعونَ رُؤيتها غَيرُ مَوجودةٍ على الإطلاق.

ومنها جاءَ الظَّنُّ بأنَّ : "الأطفالَ يولدونَ كصفحةٍ فارغةٍ ولكنَّهم يمتلكونَ كُلَّ الأدواتِ التي تُمكِّنُهم من التَّعلُّمِ وملءِ هذه الصَّفحة".

وفي ستينيِّاتِ القرنِ العشرينِ تقدَّمت عُلومُ الأعصابِ بشكلٍ واضحٍ، وتمَّ اعتمادُ قياسِ مُدَّةِ نظرِ الأطفالِ لشيءٍ ما وربطِها بمدى اهتمامهم به. حيثُ أثبتَ العالِمُ روبرت فانتز (Robert Fantz) أنَّ الطِّفلَ دونَ الشَّهرينِ يُمضِي ضِعفَ الوقتِ بالنَّظَرِ إلى لوحةٍ لوجهِ الإنسانِ، مقارنةً بلوحَةٍ لعَينيّ الثَّورِ على سبيلِ المثال. كما أشارَ ريتشيرد أزلين (Richard Aslin)– عالِمٌ في سلوكِ الأطفالِ، إلى مدى أهميَّةِ وسائِلِ قياسِ مُدَّةِ النَّظَرِ، التي ساهَمَت بِشكلٍ كبيرٍ في فهمِ الأطفالِ، فهذهِ الوسائِلُ غيَّرت الظَّنَّ القائِمَ بأنَّ الأطفالَ يولدونَ كصَفَحاتٍ فارغةٍ، ودَعَتهُم للاعتقادِ التَّالي: "الأطفالُ يولدونَ مع بعضِ المَعرِفَةِ والاهتمامِ بوجوهِ الأشخاصِ والأرقامِ تحديداً، والاهتمامَ باللُّغَةِ المَحكيَّةِ بلهجةِ الأمِّ" ما دَفَعَ للاعتقادِ بقدرتِهِم على السَّماعِ ضِمنَ الرَّحِم.

التَّطوُّر العَصَبي: استِكشَافُ الدِّماغِ

في عام 2005 قامَ أحدُ العُلماءِ بإجراءِ تَجربةٍ للتَّأكُّدِ من صِحَّةِ فرضيَّةِ جين بياجيت والتي تَنُصُّ على أن الأطفالَ دونَ سِنِّ الثَّمانيَةِ أشهرٍ تقريباً لا يتذكَّرونَ الأشياءَ التي لا يَستطِيعُون رُؤيتَها. وذلك من خِلالِ قياسِ أمواجِ الدِّماغِ عندَ البالغينَ الموافِقَة لتَذكُّرِ أمرٍ ما خارِجَ نطاقِ بصرَهِم، حيثُ استطَاعُوا تَحديدَ نمطٍ منَ الذَّبذباتِ في الفصِّ الصَّدغيِّ الأيمنِ، وشُوهدَ هذا النَّمطُ عندَ الأطفالِ بعُمرِ السِّتَّةِ أشهرٍ، ما يدُلُّ على أنَّ الأطفالَ بهذا السنِّ يتذكَّرونَ الأشياءَ في حالِ تمَّ إخفاؤُها عنهم، وبالمقابِلِ لم تَتمَّ مُشاهدةُ هذا النَّمطِ من الأمواجِ في حالِ تمَّ تخريبُ الشَّيءِ (الغَرض الذي كان يَتمُّ اخفاؤه)، أي أنَّهم غَيرُ قادِرينَ على استيعابِ عمليَّةِ التَّخريب.

هُنا تغيَّرَ الاعتقادانِ السَّابقانِ، فبحسبِ جونسون لا يُولدُ الأطفالُ كصفحةٍ فارغة، ولا يَمتلكون خبراتِ الأشخاصِ البالغينَ بل هنالِكَ حلٌ وسيطٌ بينهما: "يَنجَذِبُ الأطفالُ نحو أمورٍ معينة كالوُجوهِ والكَلامِ، ويُفضِّلونَ النَّظَرَ إلى عُيونِ من يحدِّثُهم، هذا يدفعُ لتَطويرِ العَلاقةِ مع الجُزءِ الاجتماعِيِّ من مُحيطِهم، وبالتَّالي اكتسابُ المهاراتِ اللغويِّةِ والرُّموزِ الاجتماعيَّةِ، كَتعابيرِ الوَجه".

سَعَادَةُ الأطفَال

مُختبرُ الأطفالِ في بيركيك مُجهَّزٌ بالتَّفاصيلِ اللَّازِمَةِ لإجراءِ التَّجارُب على الأطفال، حيثُ أنَّ قاعةَ الاستقبالِ تَمتَلِكُ غُرفةً مع ألعابٍ كَثيرةٍ ومَطبخٍ مع جهازٍ لِتَدفِئَةِ زُجاجاتِ الحَليب. فِي حين أنَّ المَخبَرَ بذاتِه مَطلِيٌ باللَّونِ الرَّمَاديِّ، وذلكَ كي يكونَ مُمِلَّاً قَدرَ الإمكانِ للأطفالِ، فهم لا يُريدونَ للأطفالِ أن يَتَشتَّتوا أثناءَ إجراءِ التَّجربة.

بالإضافَةِ لِكلِّ هذه التَّجهيزاتِ يَقومُ العُلماءُ بِتَجهيزِ برامِجِ الاختباراتِ بشكلٍ مِثاليٍّ، فيأخذونَ بعينِ الاعتبارِ فتراتِ الرَّاحةِ وتناولِ الطَّعامِ والنَّومِ.

تجرِبَةُ التَّقليدِ "المُحاكاة" هِيَ واحدةٌ مِنَ التَّجارِبِ التي تَعتَمِدُ على الوَسائِلِ المُختَلِفَةِ في القياسِ والتي يَستَخدِمُها مُختَبَرُ الأطفالِ في بيركبيك، حَيثُ أنَّ هذهِ التَّجربَةَ تتمُّ على طِفلةٍ بعمرِ الأربعةِ أشهرٍ بقياسِ الفعاليَّاتِ الكَهربائيَّةِ في الفصِّ الصَّدغيِّ أثناءَ عرضِ فيديوهاتٍ قصيرةٍ لأشخاصٍ يُظهرونَ تعابيراً وجهيَّةً واضحةً، تَهدُفُ هذه التَّجربَةُ إلى تَحديدِ الفعاليَّاتِ الكهربائيَّةِ عندَ الأطفالِ بعدَ مُشاهدةِ التَّعابيرِ الوَجهيَّةِ، فالأطفالُ يمُدُّونَ ألسِنَتَهُم عِندما يَقومُ البَالغونَ بذلك، وما يُريدُ العُلماءُ مَعرِفَتَهُ هُو: هَل ما يقومونَ بِه هو تَقليدٌ للبالغينَ أم أنَّهم يَمدُّونَ ألسِنَتَهُم كُلَّما رَأوا شَيءً مُثيراً للاهتمامِ؟

فِي إحدى التَّجاربِ تَمَّ عرضُ فيديو تَظهَرُ فيهِ امرأةٌ تَرفَعُ حاجِبَها، لم تظهر للعينِ المجرَّدَةِ لَدى الطِّفلَةِ أيُّ حرَكةٍ حقيقيَّةٍ فهي لَم تَستَطِع تَقليِدَها، ولكنَّ الأقطابَ الكهربائيَّةَ المَوصُولَةَ لجَبينِها أشارَت إلى زِيادَةِ الفعاليَّةِ الكهربائيَّةِ في العضلاتِ المَسؤولةِ عن رفعِ الحاجِبِ عند الطِّفلَة ، مَا يَدُلُّ على محاوَلَةِ الطِّفلَةِ تقليدَ المرأة.

في وقتٍ آخر، قامَ العُلماءُ بمحاولةِ قياسِ تَدَفُّقِ الدَّمِ في أقسامِ الدِّماغِ المُختَلِفَةِ عندَ عرضِ الفِيديو نَفسه، لمقارنَةِ ما يحدثُ عندَ الأطفالِ بالتقليدِ عندَ البالغين. باستخدامِ تقنيَّةٍ تُدعى (NIRS- near infra red spectometry) تمَّ استخدامُها في التَّجارُبِ على الأطفالِ بهدفِ قياسِ فعاليَّةِ أجزاءٍ محدَّدةٍ مِنَ الدِّماغِ، ولكنَّها ليست مثاليَّة، فهي غيرُ قادرةٍ على قياسِ الأجزاءِ الباطِنَةِ من الدِّماغِ كالوِطاء hyppocampus أو اللَّوزةِ amygdala، ولتصويرِ الأقسامِ الباطِنَةِ يحتاجُ العُلماءُ وسائِلَ أكثَرَ دِقَّةً مثلَ التَّصويرِ بالرَّنينِ المِغناطيسيِّ الوظيفيّ (fMRI) والتي تَتطلَّبُ البقاءَ ساكِنَاً لفترةٍ طَويلة، مَا يجعَلُ استخدامها عندَ الأطفالِ أمراً مستحيلاً ما لم يتمَّ تركينُهم، ولذلكَ لا يُمكن استخدامها.

لمحَةٌ عنِ التَّوحُّدِ وعلاقَتِهِ بالدِّراسَة

أصبحَ التَّوحُّدُ واضطرابُ نقصِ الانتباهِ مع فرطِ النَّشاطِ (ADHD) أحدَ اهتماماتِ مختبرِ الأطفالِ في بيركبيك بسببِ الوعي المتزايدِ عَن هذا المَرَضِ في العَقدينِ الآخرين، وفي هذا المُختبرِ تمَّ إجراءُ تجربةٍ على 104 أطفالٍ، استطاعَ العلماءُ مِن خلالِها تَوضيحَ العلاقةِ بينَ زَمنِ النَّظَرِ إلى وجهِ شَخصٍ ما واحتمالَ إصابةِ الطِّفلِ بالتَّوحُّد، فالأطفالُ المصابونَ بالتَّوحُّدِ يُفضِّلونَ النَّظَرَ إلى الوجوهِ أولاً (مثلَ الأطفالِ السَّليمينَ) ولكنَّ طولَ فترةِ النظر أقلّ مقارنةً بالأطفالِ السَّليمين. هذا الاكتشافُ هو جزءٌ من مشروعٍ كبيرٍ يَسعى بِهِ العُلماءُ إلى اختبارِ أطفالٍ أكثرَ لتحديدِ ملامحٍ أدقَّ تمكِّنُهم مِنَ التَّعرُّفِ على بدايةِ ظُهورِ التَّوحُّدِ عندَ الأطفالِ، مما سيساعُدُ في تَطويرِ عِلاجٍ لتَوجيهِ نُموِّ عُقولِ الأطفالِ بشكلٍ أفضل. ففريقُ الباحثينَ يظنُّ أنَّ علاجَ الأطفالِ قبلَ ظُهورِ علاماتِ التَّوحُّدِ عليهم سَوفَ يؤدِّي إلى نَتَائِجَ هامَّة استناداً إلى تجارِبَ أخرى قَاموا بها، ولكنَّهم ليسوا مُتأكِّدينَ تماماً مِن دقَّةِ هذهِ التَّجربةِ، ولا ما إذا كانَت هذه النَّتائِجُ طَويلةَ الأمدِ.

ولا يَزالُ المُختبرُ يَسعى لِتطويرِ وَسائِلَ أخرى لإجراءِ الاختبارات منها ما يقومُ على تدريبِ الأطفالِ للتَّعاوُنِ مَعَ البَاحِثين، ومِنها مَا يقومُ على تطويرِ وسائِل قياسٍ معقدَّةٍ تَسمَحُ بإجراءِ قياساتٍ دَقيقةٍ على أطفالٍ مُستيقظين، كُلُّ هذه الوسائِل والتَّجارب هِي الخُطُواتُ الأولى فِي سَبيلِ عِلاجِ الاضطِراباتِ النَّفسيَّةِ عندَ الأطفال.

المصدر:

هنا