الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الثورة الفرنسية – الجزء الأول (مونتيسكيو) والدُّستورية الليبرالية

استمع على ساوندكلاود 🎧

الفلسفةُ هي من يولّدُ الأفكار. ولكن، هل كان ذلك المولودُ ينتمي إلى سلالةٍ أخرى؟ يناقش (موريس كرانستون) الأصولَ الثقافيةَ للثورة الفرنسية وتطوُّرَها. يُعدّ (أدموند بيرك) أولَ من رأى أنّ فلاسفةَ عصرِ التنويرِ في فرنسا كان لهم دورٌ -بشكلٍ أو بآخرَ- في اندلاعِ الثورةِ الفرنسية، والذي قد تمّ تبنّي رؤيتِه تلك والإسهابُ في تفسيرِها من قبل الكثيرِ من المؤرِّخين، الذين من بينِهم (توكفيل) واللورد (أكتون). وممّا لا شكَّ فيه أنّ الفلاسفةَ آنذاك هم مَن طرحوا أفكارَ الثورةِ الفرنسية، إلا أنّ انهيارَ نظامِ الحكمِ كان أيضًا نتيجةَ بروزِ عواملٍ أخرى؛ كالمشاكلِ الاقتصادية، والاضطراباتِ الاجتماعية، إضافةً إلى الطموحاتِ والتطلُّعاتِ المتضاربة، سواءً على مستوى الأفرادِ أو الجماعات. غيرَ أنّ ما تكشَّفتْ عنه الثورةُ الفرنسية، أفكارُها أو ما قيل فيها على حدٍّ سواء، وكذلك ما نادتْ به؛ عُبِّرَ عنه ضمن مصطلحاتٍ وفئاتٍ وضعَها وحدَّدها المنظِّرون السياسيُّون في عصرِ التنوير. كان أولئك المنظِّرون في منأًى عن مشاركةِ أفكارِ الثورة، إلا أنّ الثورةَ ذاتَها (لاحقًا)، لم تنشأْ بفعل برنامجٍ ثوريٍّ واحد. وخلافًا لما كانت عليه الثورتان الأميركية والإنجليزية، فقد مرّت الثورةُ الفرنسيةُ بسلسلةٍ من المراحل، شكّلت كلُّ مرحلةٍ منها ثورةً بحدِّ ذاتِها. وفي حين كان الثوريُّون قادرين على رفضِ سياسةٍ ما والتحوُّلِ إلى نقيضِها، فقد كانوا كذلك قادرين على التحوُّلِ من أحدِ فلاسفةِ التنوير إلى بديلٍ منافسٍ له، أو إلى أحدِ الخصومِ المنظِّرين والمنبثقين من البَوْتَقَةِ ذاتِها. لكن ما هي المراحلُ التي مرّت بها هذه الثورة؟

• كانت المرحلةُ الأولى من مراحلِ الثورةِ الفرنسية، تلك التي سيطرت عليها أفكارُ (مونتيسكيو)، لا سِيَّما تلك التي شرحها في رائعته (L'Esprit des lois) أو (روح القوانين)، أو في ترجماتٍ أخرى: (روح الشرائع)، والتي نُشرتْ عامَ 1753م. فقد رأى مونتيسكيو أنّ أفضلَ نظامٍ للحكمِ هو نظامُ الملَكيّةِ الدُّستوريةِ الليبرالية، لشعبٍ يُقدِّر معنى الحرية؛ إذْ يقومُ نظامُ الحكمِ هذا على أساسِ تقسيمِ سيادةِ الدولةِ بين عدّةِ مراكزِ قُوى، الأمرُ الذي يوفِّرُ مراقبةً دائمةً لأيِّ مركزٍ من تلك المراكزِ في حالِ تحوُّلِه إلى نظامٍ استبداديّ. كما رأى أنّ الإنجليزَ قد حقّقوا ذلك من خلالِ تقاسُمِ السيادةِ بين الملَكيّةِ، والبرلمانِ، والمحاكمِ القانونية. ويَطرحُ رؤيتَه هذه بالنسبةِ للفرنسيين؛ أنهم في حالِ رغبتِهم بتبنّي تلك الفكرة، فهم في حاجةٍ إلى الاستفادةِ من مِلْكيّةِ العقاراتِ والأراضي، الأمرُ الذي كانوا هم أنفسُهم على درايةٍ واسعةٍ به؛ المَلَكيّة، والمحاكمُ الأرستقراطية، والكنيسة، وأراضي النبلاء (الأراضي الواقعةُ تحت سلطةِ الإقطاعيين)، وكذلك حقوقُ امتيازاتِ المدن.

إنّ مشروعَ مونتيسكيو لنظامِ الحكمِ يمنحُ السيادةَ للطبقةِ الأرستقراطيةِ حِصّةً جليّة، تلك الطبقةِ التي ينتمي إليها مونتيسكيو نفسُه. والأرستقراطيون هم أصحابُ المناصب (أي الذين اكتسبوا صفةَ الأرستقراطيةِ من خلالِ المنصب)، وكذلك الانتماءِ العرْقيّ (أي الأرستقراطيون الذين اكتسبوا صفةَ الأرستقراطيةِ من خلالِ توارُثِ ملْكيةِ الأراضي). لقد كانت إحدى فئاتِ الثوريّين الأكثرَ نشاطًا خلالَ المراحلِ الأولى من الثورةِ الفرنسية هم ممّن ينتمون إلى الطبقةِ الأرستقراطية، والذين قاموا -بما لا يدعُ مجالًا للشكّ- بربطِ مفهومِ الحريةِ الوطنيةِ بما يتناسبُ مع مصالحِهم العقاريّةِ وممتلكاتِهم.

عندما اندلعت الثورةُ الفرنسية، قام (لويس السادسَ عشر) باستغلالِها على بعضٍ من رعاياه النبلاء؛ لتكون مشروعًا يحاكي من خلالِه ما قام به نبلاءُ الحزبِ اليمينيِّ في إنجلترا عامَ 1688م؛ فاستبدلَ نظامَ الحكمِ من الملَكيّة المطلقة إلى الملَكيّةِ الدُّستورية. وكان ذلك سعيًا منه لتجنُّبِ أن يتحوَّلَ هو نفسُه إلى (جيمس الثاني) ملكِ إنجلترا، فحاول بذلك أنْ يلعبَ دورَ (ويليام الثالث).

لقد كان الكونت (دي ميرابو) أحدَ أبرزِ المنادين بأفكارِ مونتيسكيو بين ثوريِّي المرحلةِ المبكرةِ من الثورةِ الفرنسية، فقد كان تلميذًا شغوفًا بمطلبِ مونتيسكيو لملَكيّةٍ دُستورية. ومن ناحيةٍ أخرى، فقد كان مؤمنًا بفكرةِ أنّ السبيلَ الوحيدَ الذي يضمَنُ الحرية؛ هو إرساءُ نظامِ السيادةِ المجزَّأة، إلا أنّه لم يتفقْ معَ مونتيسكيو في فكرتِه التي تجعلُ لملْكيّةِ الأراضي والعقاراتِ في فرنسا نصيبًا من تلك السيادة. وبالرغمِ من كونِه أحدَ نبلاءِ عصره، لم يكن على وفاقٍ مع معظمِ أقرانِه من النبلاء. وفي واقعِ الأمر، إنّ أحدَ أكبرِ الفروقاتِ بين نبلاءِ فرنسا الليبراليِّين الذين بَرَزوا في مراحلِ الثورةِ المبكرة – كـ(لافايت)، و(كوندرسي)، و(يانكورت)، و(تاليران)، وكذلك (ميرابو)– وبينَ أرستقراطيِّي الحزبِ اليمينيِّ الإنجليزيِّ عامَ 1688م؛ يكمنُ في أنّ نبلاءَ فرنسا لم يمثِّلوا آراءَ شريحةٍ واسعةٍ من طبقةِ الأرستقراطيِّين التي ينتمون إليها. وقبلَ وفاةِ ميرابو في نيسانِ عامِ 1791م، تحقّقَ حُلُمُ مونتيسكيو الذي يقومُ على إسنادِ حصةٍ كبيرةٍ من السيادةِ الوطنية إلى الطبقةِ الأرستقراطيةِ وإلى الكنيسة، وقد تمَّ له ذلك بشكل عَفْوِيٍّ من خلال أمريْن؛ أولُهما الكنيسة، والثاني كان طبقةَ النبلاءِ التي انعقدَ أولُ اجتماعٍ عامٍّ لها في أيارَ عامِ 1789م. وقد كانت القراراتُ الصادرةُ أكثرَ حرصًا على التمسُّكِ بالامتيازاتِ المقدَّمةِ للنبلاءِ عِوَضًا عن الانضمامِ إلى أحزابٍ وقُوىً أخرى، وهو الأمرُ الذي رَغِبَه مونتيسكيو بشدّة. وفي المقابل، كانت الجماعاتُ الأقلَّ حظًّا بالامتيازات، والمتمثِّلةِ في الطبقةِ الثالثة –المَشاعات– هي التي طالبت بأن تُسنَدَ حصةٌ من السيادةِ الوطنيةِ إلى العرش (الملَكيّة).

وبهذا نرى أنّ مونتيسكيو قد تركَ بصمةً لا تُمْحى، في تاريخِ الثورةِ الفرنسية، ولا سيَّما في مراحلِها الأولى. لكنْ يبقى السؤالُ الأهمّ: هل بقيَ الحالُ على ما هو عليه من تقسيمٍ للسلْطةِ بين الأرستقراطيِّين والإقطاعيِّين والملِك والكنيسةِ كذلك؟ أم إنّ هناك علاماتٍ بدأت تلوحُ في الأفُقِ تطالبُ بالرجوعِ عن هذا المبدأِ واعتمادِ غيرِه؟ وما دورُ كلٍّ من (جون لوك) و(جاك روسو) في هذا؟

نتابعُ هذا كلَّه في مقالِ الجزءِ الثاني من الثورةِ الفرنسية.

المصدر:

هنا