الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

صناعةُ الحقيقة والتّسلسلُ الهرميُّ للمصداقيّة

استمع على ساوندكلاود 🎧

نظرًا لاحتواءِ كلِّ مجتمعٍ على فئاتٍ مختلفة؛ فمن الطبيعيِّ أن تتنوَّعَ الأفكارُ ووِجْهاتُ النظرِ السائدة، التي يدعمُها البعضُ ويَدْحَضُها البعضُ الآخَر. وقد يتبادرُ إلى الأذهانِ سببُ هيمنةِ أفكارٍ معيّنةٍ على مجتمعٍ ما، في حين أنه يمكنُ أن تُرفَضَ تمامًا في مجتمعاتٍ أخرى. فكيف ينشأُ هذا التبايُن، وكيف من الممكن أن يتحوّلَ رأيٌ ما إلى ما يسمّى (الحقيقة)؟

يَطرحُ الباحثُ الشهيرُ في علمِ الاجتماع (هاورد بيكر - Howard Becker) في مقالِه (مع أيِّ جانبٍ أنت؟ - Which Side Are You On؟)، مفهومَ (التسلسلِ الهرميِّ للمصداقيّة - The Hierarchy of Credibility)، الذي يقدّمُ فيه إجابةً عن هذه التساؤلات.

في أيِّ نظامٍ مؤلَّفٍ من جماعاتٍ متسلسِلة، يسلّمُ الأعضاءُ بأحقيّةِ الطبقاتِ العليا في تعريفِ حقيقةِ الأمور. وسنجدُ في أيِّ منظَّمةٍ أنّ الأسهمَ التي تُشيرُ إلى تدفُّقِ المعلوماتِ تتَّجهُ إلى الأعلى؛ مما يؤكِّدُ فكرةَ أنّ هؤلاءِ المنتمينَ إلى الطبقاتِ العليا يتمتَّعون برؤيةٍ أشملَ لوقائعِ الحوادثِ أكثرَ من غيرِهم. وفي المقابل، فإنّ نظراءَهم من الطبقاتِ الأدنى ستكونُ مصادرُهم عن الحقيقةِ أقلَّ عددًا ووضوحًا؛ مما يَضطرُّهم إلى قبولِ آراءِ المجموعةِ الأولى، واعتبارِهم أكثرَ مصداقيّة؛ لامتلاكِهم كَمًّا أكبرَ من المعرفة.

من ناحيةٍ أخرى، يقوم (ستيوارت هول - Stuart Hall) الباحثُ في مجالِ الدراساتِ الثقافيّة، بتطبيقِ المفهومِ نفسِه في مجالِ الإعلامِ وإنتاجِ الأخبار، في مقالِه (الإنتاجُ الاجتماعيُّ للأخبار - The Social Production of News).

تزعُمُ قنواتُ الأخبارِ الكبرى أنها مصدرٌ موثوقٌ للأخبارِ التي تنقُلُها (بشفافيَّةٍ) و(حياديّة)، وتستندُ في دعمِ هذه العباراتِ إلى تصريحاتٍ صادرةٍ عن ممثِّلين رسميِّين لمؤسساتٍ اجتماعيّةٍ كبرى. يُطلِق (هول) على هؤلاء اسمَ (المعرِّفون الأساسيّون للمواضيع المهمة - The Primary Definers of Topics). تزوِّدُ هذه المجموعةُ الإعلامَ بالمواضيعِ التي تريدُ تسليطَ الضوءِ عليها؛ وبذلك تحدِّدُ المجالاتِ التي ستُعَدُّ جديرةً بالاهتمامِ في المجتمع. وعلى ذلك، فأهميّةُ الخبرِ لا تكمنُ في ذاتِه حقًّا، بل في القيمةِ التي يُضْفونها هم عليها. إذنْ فالإعلامُ -ببساطةٍ- لا (يبتكرُ) الأخبار، بل إنّه يعكِسُ أيديولوجيّةَ هؤلاء.

عندَ دراسةِ مفهومَي (التسلسلِ الهرميِّ للمصداقيّة) و(المعرِّفين الأساسيّين للمواضيع المهمّة)، فإننا حتمًا نتطرَّقُ إلى البحثِ في موضوع الأيديولوجيا، والتي تُعرَّفُ بشكلٍ عامٍّ بأنها الوسائلُ المستخدَمةُ لإضفاءِ الشّرعيةِ على سلْطةِ الطبقةِ المهيمِنةِ في المجتمع. يشيرُ (تيري إيغلتون - Terry Eagleton) في كتابِه (الأيديولوجيا، مقدّمة – Ideology: An Introduction)؛ إلى أنَّ أيَّ أيديولوجيا تسعى إلى تحقيقِ وظيفتِها تلك بعدّةِ طرقٍ أساسيّة، هي:

1- الترويجُ للمعتقداتِ والقيمِ التي تخدُمُها.

2- (عولمةُ) هذه المعتقدات؛ لجعلِها تبدو بديهيّةً وطبيعيّة.

3- مهاجمةُ الآراءِ التي تُعارِضُها.

4- طمسُ الحقائقِ الاجتماعية، عبرَ كبتِ الصِّراعاتِ القائمةِ وإنكارِ وُجودِها.

وعلى ضوءِ ما سبق، يَبْرُزُ دورُ الإعلامِ الواضحُ وسيلةً للترويجِ للأيديولوجيا السائدةِ في المجتمع.

يتّفقُ (بيكر) و(هول) على أنّ الإعلامَ -بهذه الطريقة- يعكِسُ بصورةٍ رمزيّةٍ التسلسلَ الطَّبقيَّ لقُوى المجتمع، من خلالِ ربطِ المصداقيةِ بمكانةِ الجهةِ الصادرةِ عنها. وقد يبدو ذلك الخِيارُ بديهيًّا للكثيرين، لكن هل يَصِحُّ فعلًا تسليمُنا بالمصداقيّةِ على هذا النّحو؟

الجوابُ بالطّبع هو كلّا؛ فمن الطبيعيِّ أنْ تضْمَنَ تصريحاتُ الطبقاتِ العليا مصالحَهم من جهة، وأنْ تُوارِيَ أخطاءَهم من جهةٍ أخرى؛ لذلك فإنّه من المستحيلِ وصفُها بالحياديّةِ التامّة. وهذا يخلُقُ كثيرًا من المشاكلِ أمامَ الباحثِ الاجتماعيّ، في محاولتِه تقديمَ دراسةٍ سليمةٍ عن الطبقاتِ المرتبطةِ ببعضِها بشكلٍ تسلسليّ. يبيّنُ (بيكر) أنّ الباحثَ الاجتماعيَّ يواجهُ تهمةَ الانحيازِ على نحوٍ أشدَّ وطأةً حين يَميلُ إلى تصديقِ الطبقاتِ التابعة؛ لأنه بذلك ينسِفُ مفهومَ التسلسلِ الهرميِّ للمصداقيّة، الذي اجْتاحَ المجتمع. كما أنّ الوقوفَ في صفِّ المجموعةِ التابعةِ سيُعرِّضُ سياساتِ الطبقاتِ الأعلى للمُساءلة؛ مما سيَضطرّهم إلى تشويشِ الحقائقِ بما يناسبُهم. على سبيلِ المثال، يَتوقّعُ المجتمعُ مِن المدرسةِ –باعتبارِها مؤسسةً رسميّة- أنْ تقومَ بدورِها في تعليمِ الأطفالِ على وجهٍ مُرْضٍ، إلا أنه في أغلبِ الأحيان، لا تتمكنُ مؤسسةُ المدرسةِ من تحقيقِ الآمالِ المرجوّةِ منها على أكملِ وجه؛ فيَلْجَأُ القائمون عليها إلى إنكارِ فشلِهم، أو إلقاءِ اللومِ على تخاذُلِ الطبقةِ التابعة؛ أي الطلّابِ في هذه الحالة.

مسؤوليّةُ الباحثِ الاجتماعيّ:

لا يَخْفى على أحدٍ كونُ معظمِ الباحثين الاجتماعيّين ليبيراليّي التوجُّه، مَيّالينَ إلى تسليطِ الضوءِ على الطبقاتِ المسحوقة؛ مما يجعلُ مهمّةَ الالتزامِ بالموضوعيّةِ أكثرَ صعوبةً وتعقيدًا. يَجزِمُ (بيكر) باستحالةِ عدمِ تأثًّرِ الباحثِ على الإطلاقِ بميولِه وعواطفِه تجاه أحدِ الطّرفين، ولعلّ الطريقةَ الوحيدةَ للالتزامِ بالحياديّةِ في هذه الحال، هي إدخالُ طرفٍ ثالثٍ ذي رأيٍ مختلِف في الدراسة. فمثلًا، قد لا يَرى الماركسيُّون أيَّ فائدةٍ من التفريقِ بين الليبيراليّين والديموقراطيّين، أو بين أربابِ العَمالةِ اليدويّة وأربابِ المشاريعِ الكبيرةِ المموَّلة؛ إذْ إنّ كلَّ هؤلاء من وجهة نظرٍ ماركسّية؛ لن يُنصفوا الطبقاتِ الكادحةَ حقًّا. غيرَ أنَّ إدخالَ طرفٍ ثالثٍ في موضوعِ الدراسة، في سبيلِ الالتزامِ بموقفٍ حياديّ؛ سوف يُوسِّعُ نطاقَ الصراعِ الاجتماعيِّ والسياسيّ؛ مؤدّيًا إلى انحرافِ البحثِ عن مسارِه. ولذلك فإنّ المطلوبَ من الباحثِ الاجتماعيِّ للمحافظةِ على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المصداقيّة؛ هو أنْ يختارَ الجانبَ الذي تُمْليه عليه قناعاتُه، معَ الالتزامِ بقواعدِ البحثِ العلميّ، وتقييدِ العواطفِ التي لا يمكنُ إلغاؤها بعِنانِ المنطِق، معَ التروّي في إصدارِ الأحكام، وإخضاعِها للتجارِبِ اللازمةِ قبلَ تحويلِها إلى نتائج.

المصادر:

-Becker، Howard S. “Whose Side Are You On?” Social Problems. 148 (1967). 239-247. Scribd. PDF file.

-Eagleton، Terry. Ideology: An Introduction. London: Verso، 1991. Scribd. PDF file.

-Hall، Stuart. “The Social Production of News.” Media Studies: A Reader. Eds. Paul Marris

and Sue Thornham. Edinburgh: Edinburgh UP، 1997، 424-430. Scribd. PDF file.