البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

خطوة أولى على طريق فهم حاسَّة الشم لدى الخلايا

استمع على ساوندكلاود 🎧

حركةُ الخلايا ضروريةٌ جداً لبقائها وتكاثرها، ولكنّ اعتماد الخلايا على حركةٍ عشوائية للوصول إلى غذائها وشُرَكائها ليس الطريقة المُثلى لتحقيق تلك الأهداف. لذلك تملك الخلايا حاسّة شمٍ شديدة الحساسية لتزوِّدها بالمعلومات عن الوسط المحيط لتوجّه نُمُوَّها نحو مصدر الروائح التي تستقبلها. وللتوضيح، حاسةُ الشمِ هنا هي قدرة الخلايا على استقبال الإشارات الكيميائية "الروائح" وتفسيرها. ومن أمثلة حاسة الشم هذه لدى الخلايا البشرية نجد أنّ الخلايا العصبية على سبيل المثالِ تقومُ بتشكيل امتداداتٍ عصبيةً طويلة تَنجَذِبُ إلى الإشارات القادمة من الخلايا الأخرى لتشكيل الشبكة المعقّدة التي تُمَثِّلُ الجهازَ العصبيَ، كما تقومُ البالعاتُ بشكلٍ مماثلٍ بالتعرّف على رائحة الجراثيم المُضِرّة فتتّجُه إليها وتقومُ بتدميرها.

لطالما كانت الآلية التي تستعملها الخلايا للتوجّه نحو مصادر الروائح المجاورة مجهولةً ولكنْ يبدو أنّ الباحثين قد وَجَدوا الطريق لفهم تلك العملية.

درس باحثون في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا ETH بقيادة البروفيسور بيتر ماثياس Matthias Peter من معهد الكيمياء الحيوية خلايا الخميرة التي تملك القدرة على التعرّف على الإشارات الكيميائية ومعالجتها، ومن ثمّ القيام بردة الفعل المناسبة بالنمو تجاه مصدر الإشارة؛ إذ تملك خلايا الخميرة أداةً صغيرةً مُتعدّدةَ الوظائف تقوم بكُلِّ ما سبق. وبذلك تستطيع خلايا الخميرة اشتمامَ موقع الشريك الجنسي في محيطها والنموَّ باتجاهه. لدراسة هذه العمليات، فقد استخدم العلماء المراقبة المجهرية ونموذج حاسوبي قاموا بتطويره بالتعاون مع باحثين من مخبر التحكم الأوتوماتيكي بقيادة هاينز كوبل Heinz Koeppl.

عندما تعتقد الخلايا بوجود إشارة مُتَدَرّجة القوة بالقُرب منها، تبدأ بتشكيل الأداة متعدّدة الوظائف، هذه الأداة هي معقّد بروتيني كبير مكون من اكثر من 100 مكوِّنٍ مُختَلِفٍ، المعقّدُ كبيرٌ جداً لدرجة أنّه يمكن رؤيته عبر المجهر الفلوري. يدعوه عليه العلماء (موقع القطبية polarity site PS). لأنّ النّمو في الخلية يُصبح قطبياً من موقع تَشَكُّل الموقع.

باستخدام المجهر الفلوري، استطاع الباحثون مراقبة كيفية تَحديد موقع القطبية لمصدر الإشارة متدرّجة القوة، إذ يتحرّكُ هذا الموقع على غشاء الخلية باتجاه الإشارة الأقوى، ويتوقّف عن الحركة عندما يجد المنطقةَ حيث يوجد التركيز الأكبر من الإشارة. يُتبِعُ الموقع القطبي تَوَقّفه بتشكيل انتفاخ في الخلية عند تلك المنطقة ويستمر بالنمو باتجاه مصدر الإشارة؛ إذ تكون هذه الإشارة ناتجةً عن شريك جنسي عادة، ثم تندمج الخليتان معاً عند التقائهما.

لفهم الآلية الجزيئية لهذه العملية تمّتِ الاستعانة بمحاكاةٍ حاسوبيةٍ قامت بتبسيط العملية وإظهار المكونات الأساسية فيها التي تتضمّن مُستقبِلاً يلتقط الإشارة وينبّه الخلية لها وبعض المكوناتِ الأخرى، مثل البروتين Cdc42 الذي يقوم بنقل المستقبل عبر الغشاء، والبروتين Cdc24 الذي يقوم بتنظيم وظيفة Cdc42. وقد وصف الكاتب الأول للبحث الذي نُشر في مجلة Developmental Cell بيورن هيجيمان Björn Hegemann عَمَلَ هذه المكونات بأنّ المستقبِل يعملُ كالأنف، وCdc42 كمحرّك العملية، بينما يقوم Cdc24 بدور المكابح.

بينما يتحرّك موقع القطبية PS عبر غشاء الخلية باحثاً عن الإشارة الأقوى، لا نَجِدُ الكثير من جزيئات بروتين Cdc24 الذي يقوم بدور المكابح، وحالما يجد موقع القطبية PS التركيز الأكبر، يقومُ بطلب عددٍ أكبر من جزيئات Cdc24 التي تكون مخزّنة في النواة كي ترتبط مع المعقّد. كُلّما ازداد عدد جزيئات Cdc24 المرتبطة مع PS تتباطؤ سرعة ذلك المعقّد، وعندما يبلغ عدد Cdc24 أكبر من عَتَبَةٍ معينة يتوقّف المعقّد تماماً ويبدأ تشكّل الانتفاخ في الخلية.

قام العلماء بمتابعة حركة موقع القطبية عبر المجهر الفلوري ثمّ محاكاتها عبر الحاسوب مما ساعدهم على تطوير فرضية عن كيفية التحكّم بهذه الحركة، ثم قاموا بإثبات هذه الفرضية عبر إحداث طفرات ثم الفحص بالمجهر الفلوري، وقد ساعدت المحاكاة الحاسوبية كثيرا بالوصول إلى نتائج مرضية، إذ قدّمت المحاكاة أساساً جيداً لتخطيط التجارب عن طريق إعطاء الباحثين القدرة على تغيير المكونات والتعرّف على وظائفها وتأثيراتها، مما سرّع الوصول لنتائج الدراسة.

يعتقد Hegemann أنّ خلايا الخميرة ليست وحدها مَنْ تستعمل أداةً متعددة الوظائف كموقع القطبية، فقد لوحظ وجود مثل هذه الحركة عند الخميرة الانقسامية (S. pombe) والدودة المدوّرة (الربداء الرشيقة C. elegans) دون الحصول على تفسير جزيئي حتى الآن.

قدّم الباحثون عبر هذا البحثِ تفسيراً ووصفاً مفصّلاً لأوّل مرة عن كيفية تحديد الخلايا لمصدر الروائح متدرجة التركيز. يُعتبر هذا البحث الحجرَ الأساسَ لمزيدٍ من الأبحاث التي تدرس تفاعل الخلايا مع الإشارات سواءً كانت خلايا الخميرة أو الخلايا البشرية، وقد تؤَدّي لفتح آفاقٍ علاجيةٍ وتطبيقيةٍ كثيرةً أمامَ العلماءِ بعدَ دراسةِ هذه الخاصّية في الخلايا والاستفادة منها.

المصادر:

هنا

البحث الأصلي: هنا