الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

كندر سربرايز (Kinder Surprise) في قراءة مختلفة للجندريّة*

استمع على ساوندكلاود 🎧

«نحن لا ندافعُ أو نروِّجُ لمنتجاتِنا على أنها تمييزٌ بين الجنسين»، هكذا أجابت العلامةُ التجارية كندر سربرايز (Kinder Surprise) على الشكاوى حولَ مجموعتِها الجديدةِ من الشوكولا التي تحتوي على لعبةٍ مغلفةٍ بغلافٍ زهريٍّ أو أزرق. يمكنُ للأطفالِ أن يتوقعوا مجموعةً من الأبطالِ الخارقينَ والسياراتِ في الغلافِ الأزرق، و مجموعةً من الأميراتِ والدُّمى في الغلافِ الزهريّ. و بالطبع، «نحن لا نقصدُ التمييزَ بين الجنسين» كما تدّعي هذه العلامةُ التجارية؛ فهذه الأغلفةُ الملونةُ تهدِفُ إلى «مساعدةِ الوالدين في اختيارِ الألعابِ المعروضة، وجعْلِ قراراتِ الشراءِ تستندُ إلى ما هو أكثرُ أهميةً لأطفالهم». السؤالُ المهمّ: لماذا يهدِفُ منتجٌ منتشرٌ ومحبوبٌ للأطفال -بتغييرِ استراتيجيّتِه التسويقيّة- إلى النمطيّةِ بين الجنسين، من خلال حملةٍ كلَّفتْ ملايينَ الدولارات؛ في حينِ أنّه ينكرُ هذا الأمرَ علنًا حفاظًا على ماءِ الوجه؟

في عصرِنا الحاليّ، أصبحت ثقافةُ الأطفالِ ترتكزُ بشكلٍ متزايدٍ على نوعِ الجنس. حتى أواخرِ القرنِ التاسعَ عشر، كان الأطفالُ يرتدون الزيَّ نفسَه، سواءً كانوا إناثًا أو ذكورًا، ولكنْ في يومِنا هذا فإنّ الأطفالَ حديثي الولادةِ أصبحوا في متناولِ ثقافةِ الاستهلاكِ التي قسّمتهم في حفّاظاتٍ مرمَّزةٍ بالألوان. ولا يَخفى علينا الآنَ التناقضُ الواضحُ بينَ خطابِ المساواةِ بين الجنسين، وبينَ المُثُلِ العليا لرموزِ الاستهلاكِ بينهما. فاللونانِ الزهريُّ والأزرقُ يستحضرانِ الثنائياتِ التقليدية: المسيطِرَ/والسلبيّ، والضروريَّ/والتكميليّ، والعمليَّ/والتجميليّ. وبذلك فإنّ إعلاناتِ كندر حولَ منتجِها الجديدِ تقومُ بتلخيصِ السوق؛ عندما تقدّمُ السياراتِ مقابلَ الدُّمى.

إذن لماذا نقولُ شيئًا ونفعلُ شيئَا آخر؟ لماذا ندّعي رغبتَنا في المساواةِ ونبتاعُ بضائعَ تميّزُ بين الجنسين؟ دائمًا ما يأتي الردُّ سريعًا من العلاماتِ التجارية؛ بأنّ «الأبحاثَ أثبتتْ أنّ الجمهورَ يرغبُ في ذلك»، أو: «لسْنا نحن مَن يقرّرُ هل على الطفلِ أن يبتاعَ البيضةَ الزرقاءَ أم الزهرية، بل أنتم -أيها الوالدان- من يفعلُ ذلك. نحن نساعدُكم في اختيارِ ما يناسبُ رغباتِكم الشرائيةَ فقط». والأمرُ الذي جعلَ موضوعَ بيضةِ كندر موضوعًا بارزًا هو عنصرُ المفاجأة؛ فاللعبةُ الموجودةُ داخلَ بيضةِ الشوكولا يُفترَضُ أنْ تكونَ (مفاجأةً) أو (Surprise)، لكنّ الأمرَ صار محرجًا الآن؛ بعدَ معرفةِ الجنسِ الموجَّهةِ له هذه المفاجأة، بَيْدَ أنّ المستهلكَ -على ما يبدو- يطلبُ أمرًا آخرَ غيرَ عنصرِ الـ(مفاجأة).

لطالما كان هناك أمرٌ نمطيٌّ في فكرةِ كندر سربرايز، كما يخبرُنا الناقدُ (سلافوي جيجيك). وحسْبما قاله (جاك لاكان)، فإنّ بيضةَ الشوكولا تبيِّنُ رغبتَنا في شيءٍ خارجَ نطاقِ الأمرِ الذي نريدُه؛ فعندَ فتحِ الحلوى، نجعلُ الطفلَ يتجاهلُ قشرةَ الشوكولا؛ بوضعِ قشرةٍ أخرى تحتوي على لعبة. وهنا يمكنُ الاستدلالُ على آليّةِ استبدالِ عنصرٍ نرغبُ فيه، وجعْلِه عنصرًا آخر، دونَ الوصولِ إلى إشباعِ هذه الرغبة؛ وبذلك تُسخَّرُ بنيّةِ الرغبةِ الأساسيةِ في عمليةِ تسليعٍ وتسويق؛ فكندر سربرايز توفّرُ شيئًا إضافيًّا، وهو اللعبة، التي تتجاوزُ الأمرَ الأساسيَّ الذي ابتعْنا من أجله هذه البضاعة، وهو الشوكولا، التي تُهمَلُ غالبًا. يمكنُ إسقاطُ الفكرةِ بشكلٍ ملموسٍ عن طريقِ ملاحظةِ الفراغِ الهيكليِّ بين الغرضين (الفراغِ الموجودِ بين البيضةِ واللعبةِ في داخلِها). و بذلك - حسبما يدعي جيجيك- فإنّ كندر سربرايز تكسِبُ الأموالَ عن طريقِ بيع فكرةِ الـ(رغبة)، أي الإثارةِ المؤقتةِ للرغبة، دونَ أيِّ قيمةٍ حقيقيةٍ للمنتج.

الأمرُ المهمُّ هو أنّ جيجيك يجعلُ مِن بيضةِ كندر مثالًا لرغباتِنا في ظلِّ الرأسماليّةِ ما بعدَ الصناعيّة**. وربّما كان اللونان الأزرقُ والزهريُّ ملفتَيْنِ للانتباه لأنهما يعرضان تنظيمًا هيكليًّا بشكلٍ واضحٍ وصريح؛ وهو أنّ الفراغَ داخلَ بيضةِ كندر هو فراغٌ يجبُ مَلْؤُه بتفسيرٍ ما؛ أنّ رغباتِنا ليست مِلْكَنا. فالطفلُ في عمرِ الثالثةِ لا يعرفُ هل عليه أنْ يختارَ اللونَ الأزرقَ أم الزهريّ، و إنما يُخبَرُ بما عليه أنْ يختار. وما مِن أيديولوجيّةٍ هنا بالمعنى التقليديّ للكلمة؛ فقد أصبحَ الأمرُ مجردَ وسيلةٍ لزيادةِ الأرباح، عندما بدأ الترويجُ للّونِ الزهريِّ للفتياتِ والأزرقِ للفتيان. فإذا قلنا إنّ الأسرةَ العاديةَ لديها بنتٌ وولد، فإنّ ذلك يعني شراءَ بضائعٍ أكثرَ للاستهلاكِ عندَ تحديدِ ألوانٍ خاصةٍ لكلِّ جنس. إذن فانتشارُ الزهريِّ والأزرقِ ليس إلا ضرورةً ربحيّةً، أكثرَ مِن كونِه هادفًا إلى التمييزِ بين الجنسين. و بذلك فإن فكرةَ لعبةٍ صغيرةٍ تصلحُ للجنسين معًا تعني ربحًا أقلّ، ما جعلَ ثقافةَ الزهريِّ والأزرقِ تمتدُّ إلى كندر سربرايز. وبالطبعِ فهذا ليس كافيًا لتفسيرِ الانتشارِ المتزايدِ لفكرة الزهريِّ والأزرقِ، ولكنه يثيرُ فكرةً مقلقةً حولَ ما يعتقدُه الأطفالُ حولَ أنفسِهم، ذكورًا كانوا أم إناثًا، وبأنّ أصلَ معرفتِهم بأنفسِهم ورغباتِهم يأتي من هدفٍ واحدٍ فقط؛ هو الربحُ الماديُّ للعلاماتِ التجارية. كندر سربرايز ليست إلا لاعبًا في الرأسِماليةِ ما بعدَ الصناعية، وجزءًا من ثقافةٍ وسوقٍ يبيعُنا أفكارًا حولَ هُوِيَّاتِنا؛ مما يؤثّرُ على شكلِ رغباتِنا.

* الجندريّة أو الجندرة: مصطلحٌ يعني النوعَ الاجتماعيّ، ويطلقُ على الأدوارِ والقِيَمِ الاجتماعيةِ التي يحدّدُها المجتمعُ لكلٍّ مِن الجنسين. وهي شبكةٌ من العلاقاتِ التي تختلفُ وَفقًا للزمانِ والمكانِ والعرقِ والدينِ والطبقةِ الاجتماعية.

**الرأسُماليّةُ ما بعدَ الصناعية: هو عصرُنا الحاليّ، ولا يعني ذلك أنّ الرأسَماليةَ تخلّت عن التجارة أو الصناعة أو المال، بل أنها تجاوزت ذلك كلَّه إلى مرحلةٍ أرقى من تطويرِ قوَى الإنتاج استنادًا إلى العلم والتقنية، فيما صار يعرف باسم (الثورةِ الصناعيةِ الثالثة)، أو (الثورةِ العلميةِ والتقنيةِ في خدمة المشروعات).

المرجع:

Isabela Fawn: Everyday Analysis