الطب > مقالات طبية

ذاكرةُ الدّماغِ البشريّ أكبرُ بعشرةِ أضعافٍ ممّا كنا نعتقد

استمع على ساوندكلاود 🎧

تُقاس المعلوماتِ في الحاسوب بعدد ال"بِت" bits (وحدةُ التخزينِ في الحاسوب، تملكُ إحدى القيمتين 0 أو 1) التي يمكنُ تخزينها واستعادتُها. وإنّ أهمّ الأسئلةِ حولَ الدماغِ هي كميّةُ المعلوماتِ التي يمكنُ تخزينها فيه. ونظراً لأنّ المشابك العصبيّة تُعدُّ المسؤولَ الرئيسيَّ عن الذّاكرة، فيمكنُ اعتبارُ أنّ قدرةَ الدماغِ على التخزين تتناسبُ مع كلٍّ من عددِ هذهِ المشابكِ وقوّتِها.

تعتمدُ قوّةُ المشبكِ العصبيّ (منطقةُ الاتصال بين خليّتين عصبيتين) على مفهومِ اللُّدونةِ المشبكيةِ؛ وهي قدرةُ هذه المشابك على تغييرِ قوّتِها بناءً على تغيُّرِ نشاطِها، فزيادةُ النشاطِ تزيدُ قوّةَ المشبكِ والعكسُ صحيح. وهذا يحتاجُ لكونِ طَرَفَي المشبكِ نشيطَين في وقتٍ واحد، ولكنّنا لن ندخل في كاملِ تفاصيل هذه العمليّة في مقالنا اليوم.

تتكوّن الخليةُ العصبيّة من جسمِ الخلية، وتغصّناتٍ متعدّدةٍ، ومحوارٍ وحيد. المحوارُ هو استطالةٌ ناتجةٌ عن الخليّة العصبيّة لنقلِ الإشاراتِ العصبيّة بعيداً عن جسمِ الخلية، لتوصلهُ في النهايةِ لخليةٍ أخرى. وتحوي كلُّ خليةٍ عصبيّةٍ محواراً واحداً فقط. أمّا التغصّناتُ فهي جزءُ الخليةِ العصبيّةِ الذي يستقبلُ الإشاراتِ والتنبيهاتِ من محاويرِ الخلايا الأخرى، ويقومُ بنقلهِ نحو جسمِ الخليّة. وعلى الرغمِ من العددِ الكبيرِ لهذهِ التغصّناتِ، إلّا أنّها لا تُعطي لوحدها مساحةَ السطحِ المناسبةِ للعملياتِ الضخمةِ التي يقوم بها الدماغُ، لذلك نجدُ على كلٍّ من هذه التغصّناتِ أشواكاً spines لزيادةِ هذا السطحِ. فتكونُ المشابكُ بين الخلايا العصبيّةِ ناتجةً عن اتصالِ محوارِ خليةٍ مع أحدِ هذهِ الأشواكِ الموجودةِ على التغصّنات، ومع زيادةِ قوّة المشبك، يزيدُ حجمُ هذه الأشواك.

وجد العلماءُ أنّ هناك محاويرَ تملكُ اتصالَين مشبكيّين أو أكثر مع التغصُّنات ذاتِها، ولكن على أشواكٍ مختلفةٍ. لذا، وبالنظرِ لامتلاك كِلا المشبكَين ذاتَ عددِ وقوّة التنبيهات -لتشاركهم المحوار والتغصّن نفسه-، يجبُ أنْ يكون لهما القوّةُ نفسُها.

في دراسةٍ جديدةٍ، بيّنتِ الحساباتُ وجودَ 26 قوّةً مختلفةً على الأقلّ لهذه المشابك، وهذا يعادلُ تخزين 4.7 بت من المعلوماتِ في كلّ مشبك. هذه النتائجُ الجديدةُ لقدرةِ الدّماغ التخزينيّة تزيدُ التقديراتِ السابقةَ لها بعشرةِ أضعافٍ، وبذلك فقد تكونُ أدمغتُنا قادرةً على تخزين كميّةٍ من المعلومات تقاربُ القدرة التخزينيّة لكامل الإنترنت!

درس علماءٌ من معهد salk institute في كاليفورنيا كيفية قيام العصبوناتِ في منطقةِ الحُصيَن في الدماغِ -المركزُ الرئيسيّ للذّاكرة-بأداءِ وظيفتها باستخدامِ طاقةٍ منخفضةٍ وقدراتٍ حسابيّةٍ عالية. إذ بَنَوا مجسّماً ثلاثيّ الأبعاد لنسيجِ منطقةِ الحُصَين لدى الجرذ، واكتشفوا شيئاً غريباً؛ وهو وجودُ مشابكَ مكرّرةً في حوالي 10 في المئة من الحالات. ولاكتشاف الفرقِ بين هذهِ العصبوناتِ المتشابهة، أعاد فريق Terry Sejnowki بناءَ الترابطِ والأشكال والحجوم ومساحةِ السطح لنسيجِ دماغِ الجُرَذِ على المستوى الجُزَيئِيّ النانَوي (النانو = 10-9 من واحدةِ القياس = 0.000000001 متر في هذه الحالة) وذلك باستخدام الخوارزميّاتِ الحسابيّة والمجاهر المتقدّمة.

قال Tom Bartol أحدُ العلماء: "لقد ذُهلنا عندما وجدنا أنّ الفرق في الحجمِ بينَ أزواج المشابكِ -أي المشابك التي تتشاركُ بنفسِ المحوار ونفس التغصّن وتختلفُ بالأشواك-كان صغيراً جداً، بالمتوسّط؛ حوالي 8 بالمئةِ فقط. لم يعتقدْ أحدٌ أنّ الفرق سيكون صغيراً هكذا!".

اكتشافُ أنّ أزواج المشابك هذه -والتي يُفترض أنْ تكونَ ذاتَ قوّةٍ واحدةٍ-قد تختلف في الحجمِ بحوالي 8% فقط، يقترحُ وجود 26 نوعاً من أحجامِ المشابك بدلاً من بضعةِ أنواعٍ كما كان يَعتقدُ العلماءُ سابقاً. وتِبعاً للباحثين، فإنّ هذا التعقيدَ الإضافيّ في أبعاد المشابك يُتَرجَمُ إلى زيادةٍ كبيرةٍ في حجم الذاكرة المُفترضة للدماغ.

وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ اختلاف الحجم بين مشابكَ عشوائية -ليست أزواجاً-يقاربُ ال40% على الأقل.

يقول Sejnowski عن عملِ الدّماغ في تشكيلِ المشابكٍ العصبيّة: "هذا أكثرُ دقةً بـ10 أضعافٍ تقريباً ممّا كنا نتخيّل. الآثارُ الناتجةُ عن هذا الاكتشاف لا يمكن وصفها!".

اقترحت حساباتُ الباحثين أنّ المشابك تغيّرُ كذلك حجمَها وقدرتها تبعاً للنقل العصبيّ. إذ تتسبّب حوالي 1500 عمليةَ نقلٍ (تحتاج لحوالي 20 دقيقة) بتغييرٍ في المشابكِ الصغيرة، بينما تقومُ بضعةُ مئاتٍ فقط من تلك العمليات (مدّةُ كلٍّ منها دقيقةٌ إلى دقيقتين) بتغيير المشابكِ الكبيرة.

هذا يعني أنّه كلّ دقيقتين إلى عشرين دقيقة، سوف تتجهُ المشابكُ العصبيّة لديك الى الحجم التالي في الكِبَر أو الصِغَر، إذ أنّها تقومُ بتعديل نفسها تبعاً للإشارات التي تستقبلها.

هذه النتائجُ قد تؤدّي إلى تحسيناتٍ هامّة في الحَوسبة بآلياتٍ ذاتِ دقّةٍ كبيرة ومصروف طاقةٍ منخفضٍ باستخدام تقنيّات التعلّم العميق (هنا ) والشبكات العصبونيّة.

بعد أن أدركنا الكميّة الهائلة من المعلومات التي يمكنُ تخزينها في أدمغتنا، يبقى السؤالُ كيف لنا أن نستفيد من هذه الإمكانيّة في تطويرِ حياتنا.

المصدر:

هنا

البحث العلمي المنشور:

هنا